فصل: ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


المجلد الخامس

  ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين

  ذكر خلع المقتدر وولاية ابن المعتز

وفي هذه السنة اجتمع القوّاد والقضاة والكتّاب مع الوزير العبّاس بن الحسن على خلع المقتدر والبيعة لابن المعتزّ وأرسلوا إلى ابن المعتز في ذلك فأجابهم على أن لا يكون فيه سفك دم ولا حرب فأخبروه باجتماعهم عليه وأنّهم ليس لهم منازعٌ ولا محاربٌ‏.‏

وكان الرأس في ذلك العبّاس بن الحسن ومحمّد بن داود بن الجَرّاح وأبو المثنّى أحمد بن يعقوب القاضي ومن القوّاد الحسين بن حمدان وبدر الأعجميُّ ووصيف بن صوارتكين‏.‏

ثمّ إنّ الوزير رأى أمره صالحًا مع المقتدر وأنّه على ما يحبّ فبدا له في ذلك فوثب به الآخرون فقتلوه وكان الذي تولى قتله منهم الحسين ابن حّمدان وبدر الأعجميّ ووصيف ولحقوه وهو سائر إلى بستان له فقتلوه في طريقه وقتلوا معه فاتكًا المعتضديَّ وذلك في وركض الحسين بن حَمدان إلى الحَلبة ظنًّا منه أنّ المقتدر يلعب هناك بالكرة فيقتله فلم يصادفه لأنّه كان هناك فبلغه قتل الوزير وفاتك فركض دابّته فدخل الدار وغُلّقت الأبواب فندم الحسين حيث لم يبدأ بالمقتدر‏.‏

وأحضروا ابن المعتّز وبايعوه بالخلافة وكان الذي يتولّى أخذ البيعة له محمّد بن سعيد الأزرق وحضر الناس والقوّاد وأصحاب الدواوين سوى أبي الحسن بن الفُرات وخواصّ المقتدر فإنّهم لم يحضروا ولُقّب ابنُ المعتزّ المرتضي بالله واستوزر محمّد بن داود بن الجرّاح وقلّد عليّ بن عيسى الدواوين وكُتبت الكتبُ إلى البلاد من أمير المؤمنين المرتضي بالله أبي العبّاس عبدالله بن المعتزّ بالله ووجّه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى دار ابن طاهر التي كان مقيمًا فيها لينتقل هو إلى دار الخلافة فأجابه بالسمع والطاعة وسأل الإمهال إلى الليل‏.‏

وعاد الحسين بن حَمدان بُكرة غد إلى دار الخلافة فقاتله الخدم والغلمان والرجّالة من وراء الستور عامّة النهار فانصرف عنهم آخر النهار فلمّا جنّه الليل سار عن بغداد بأهله وماله وكلّ ما له إلى الموصل لا يُدرى لِمَ فعل ذلك ولم يكن بقي مع المقتدر من القوّاد غير مُؤنس الخادم ومؤنس الخازن وغريب الخال وحاشية الدار‏.‏

فلمّا همّ المقتدر بالانتقال عن الدار قال بعضهم لبعض‏:‏ لا نسلم الخلافة من غير أن نُبلي عّذرًا ونجتهد في دفع ما أصابنا فأجمع رأيهم على أن يصعدوا في الماء إلى الدار التي فيها ابن المعتزّ بالحرم يقاتلونه فأخرج لهم المقتدر السلاح والزرديّات وغير ذلك وركبوا السُّمَيريّات وأصعدوا في الماء فلمّا رآهم مَن عند ابن المعتزّ هالهم كثرتهم واضطربوا وهربوا على وجوههم من قبل أن يصلوا إليهم وقال بعضهم لبعض‏:‏ إنّ الحسين بن حمدان عرف ما يريد أن يجري فهرب من الليل وهذه مواطأة بينه وبين المقتدر وهذا كان سبب هربه‏.‏

ولمّا رأى ابن المعتزّ ذلك ركب ومعه وزيره محمّد بن داود وهربا وغلام له ينادي بين يديه‏:‏ يا معشر العامّة ادعوا لخليفتكم السنّيّ البربهاريّ وإنّما نسبت هذه النسبة لأنّ الحسين بن القاسم بن عبيد الله البربهاريّ كان مقدّم الحَنابلة والسُّنّة من العامّة ولهم فيه اعتقاد عظيم فأراد استمالتهم بهذا القول‏.‏

ثمّ إنّ المعتزّ ومَن معه ساروا نحو الصحراء ظنًّا منهم أنّ مَن بايعه من الجند يتبعونه فلم يلحقه منهم أحد فكانوا عزموا أن يسيروا إلى سُرَّ من رأى بمن يتبعهم من الجند فيشتدّ سلطانهم فلمّا رأوا أنّهم لم يأتهم أحدٌ رجعوا عن ذلك الرأي واختفى محمّد بن داود في داره ونزل ابن المعتزّ عن دابّته ومعه غلامه يَمِن وانحدر إلى دار أبي عبد الله بن الجصّاص فاستجار به واستتر أكثر مَن بايع ابن المعتزّ ووقعت الفتنة والنهب والقتل ببغداد وثار العيّارون والسُّفّل وكان ابن عمرَويْه صاحب الشُّرطة ممّن بايع ابن المعتزّ فلمّا هرب جمع ابن عمرّويْه أصحابه ونادى بشعار المقتدر يدلّس بذلك فناداه العامّة‏:‏ يا مرائي يا كذّاب‏!‏ وقاتلوه فهرب واستتر وتفرّق أصحابه فهجاه يحيى بن عليّ بأبياتٍ منها‏:‏ بايعوه فلم يكن عند الأن وك إلاّ التغييرُ والتخبيط رافضيّون بايعوا أنْصَبَ الأ مَة هذا لعَمْريَ التخليطُ ثمّ ولَّى من زَعْقَةٍ ومحامو ومن خلفهم لهم تَضريطُ وقلّد المقتدر تلك الساعة الشُّرطة مؤنسًا الخازن وهُو غير مؤنس الخادم وخرج بالعسكر وقبض على وصيف بن صُوارتكين وغيره فقتلهم وقبض على القاضي أبي عُمر وعليّ بن عيسى والقاضي محمّد ابن خلف وكيع ثمّ أطلقهم وقبض على القاضي المثنّى أحمد بن يعقوب فقتله لأنّه قيل له‏:‏ بايع المقتدر فقال‏:‏ لا أبايع صبيًّا فذُبح‏.‏

وأرسل المقتدر إلى أبي الحسن بن الفُرات وكان مختفيًا فاحضره واستوزره وخلع عليه‏.‏

وكان في هذه الحادثة عجائب منها‏:‏ أنّ الناس كلّهم أجمعوا على خلع المقتدر والبيعة لأبن المعتزّ فلم يتمّ ذلك بل كان على العكس من إرادتهم وكان أمر الله مفعولًا‏.‏

ومنها أنّ ابن حَمدان على شدّة تشيّعه وميله إلى عليّ عليه السلام وأهل بيته يسعى في

ثمّ إنّ خادمًا لابن الجَصّاص يُعرف بسوسن أخبر صافيًا الحرميَّ بأنّ ابن المعتزّ عند مولاه ومعه جماعة فكُبست دار ابن الجَصّاص وأُخذ ابن المعتزّ منها وحُبس إلى الليل وعُصِرتْ خصيتاه حتّى مات ولُفّ في كساء وسُلّم إلى أهله‏.‏

وصودر ابن الجَصّاص على مال كثير وأُخذ محمّد بن داود وزير ابن المعتزّ وكان مستترًا فقُتل ونُفي عليُّ بن عيسى إلى واسط فأرسل إلى الوزير ابن الفُرات يطلب منه أن يأذن له في المسير إلى مكّة فأذن له في ذلك فسار إليها على طريق البصرة وأقام بها‏.‏

وصودر القاضي أبو عُمر على مائة ألف دينار وسُيّرت العساكر من بغداد في طلب الحسين بن حَمدان فتبعوه إلى الموصل ثمّ إلى بَلَد فلم يظفروا به فعادوا إلى بغداد فكتب الوزير إلى أخيه أبي الهيجاء بن حمدان وهو الأمير على الموصل يأمره بطلبه فسار إليه إلى بَلَد ففارقها الحسين إلى سِنجار وأخوه في أثره فدخل البرّيّة فتبعه أخوه عشرة أيّام فادركه فاقتتلوا فظفر أبو الهيجاء وأسر بعض أصحابه وأخذ منه عشرة آلاف دينار وعاد عنه إلى الموصل ثمّ انحدر إلى بغداد فلمّا كان فوق تكريت أدركه أخوه الحسين فبيّته فقتل منهم قتلى وانحدر أبو الهيجاء إلى بغداد‏.‏

وأرسل الحسين إلى ابن الفُرات وزير المقتدر يسأله الرضى عنه فشفع فيه إلى المقتدر بالله

ليرضى عنه وعن إبراهيم بن كَيْغَلَغ وابن عمرَوَيْه صاحب الشُّرطة وغيرهم فرضي عنهم ودخل الحسين بغداد فرد عليه أخوه ما أخذ منه وأقام الحسين ببغداد إلى أن وليّ قُمّ فسار إليها وأخذ الجرائد التي فيها أسماء مَن أعان على المقتدر فغرَّقها في دجلة وبسط ابن الفُرات العدل والإحسان وأخرج الإدرارات للعبّاسيّين والطالبيّين وأرضى القوّاد بالأموال ففرّق معظم ما كان في بيوت الأموال‏.‏

  ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط من مثلها ويفعل فيها مثل فعل صاحبها

كان سليمان بن الحسن بن مخلَّد متّصلًا بابن الفرات وبينهما مودّة وصداقة فوجد الوزير كتب البيعة لابن المعتزّ بخطّ سليمان وقلّده الأعمال فسعى سليمان بابن الفرات إلى المقتدر وكتب بخطّه مطالعة تتضمّن

  ذكر أملاك الوزير وضياعه ومستغلاته

وما يتعلّق بأسبابه وأخذ الرقعة ليوصلها إلى المقتدر فلم يتهيّأ له ذلك‏.‏

وحضر دارَ الوزير وهي معه وسقطت من كمّه فظفر بها بعضُ الكتّاب فأوصلها إلى الوزير فلمّا قرأها قبض على سليمان وجعله في زورق وأحضره إلى واسط ووكّل به هناك وصادره ثمّ أراد العفو عنه فكتب إليه‏:‏ نظرتُ أعزّك الله في حقّك عليّ وجرمك إليّ فرأيتُ الحقّ مُوفيًا على الجرم وتذكرتُ من سالف خدمتك ما عطفني عليك وثناني إليك وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت وأجمل ما ألفت وأطلق له عشرة آلاف درهم وعفا عنه واستعمله وأكرمه‏.‏

  ذكر ولاية أبي مضر إفريقية وهربه إلى العراق وما كان من أمره

في هذه السنة مستهلّ شهر رمضان وليّ أبو مُضر زيادة الله بن أبي العبّاس بن عبدالله إفريقية بعد قتل أبيه فعكف على اللذّات والشهوات وملازمة الندماء والمضحكين وأهمل أمور المملكة وأحوال الرعيّة وأرسل كتابًا يوم وُلّي إلى عمّه الأحول على لسان أبيه يستعجله في القدوم عليه ويحثّه على السُّرعة فسار مجدًّا ولم يعلم بقتل أبي العبّاس فلمّا وصل قتله وقتل مَن قدر عليه من أعمامه وإخوته‏.‏

واشتدّت شوكة أبي عبدالله الشيعيّ في أيّامه وقوي أمرُه وكان الأحوال قبالته فلمّا قُتل صفتْ له البلاد ودانت له الأمصار والعباد فسيّر إليه زيادة الله جيشًا مع إبراهيم بن أبي الأغلب وهو من بني عمّه بلغت عدّتهم أربعين ألفًا سوى من انضاف إليه فهزمه أبو عبدالله الشيعيُّ على ما

ذكرناه آنفًا فلمّا اتّصل بزيادة الله خبر الهزيمة علم أنّه لا مقام له لأن هذا الجمع هو آخر ما انتهت قدرته إليه فجمع ما عزّ عليه من أهل ومال وغير ذلك وعزم على الهرب إلى بلاد الشرق وأظهر للناس أنّه قد جاءه خبرُ هزيمة أبي عبدالله الشيعيّ وأمر بإخراج رجال من الحبس فقتلهم وأعلم خاصّته حقيقة الحال وأمرهم بالخروج معه‏.‏

فأشار عليه بعض أهل دولته بأن لا يفعل ولا يترك ملكه‏.‏

قال له‏:‏ إنّ أبا عبدالله لا يجسر عليك فشتمه وردّ عليه رأيه وقال‏:‏ أحبّ الأشياء إليك أن يأخذني بيدي‏.‏

وانصرف كلّ واحد من خاصّته وأهله يتجهّز للمسير معه وأخذ ما أمكنه حمله‏.‏

وكانت دولة آل الأغلب بإفريقية قد طالت مدّتها وكثرت عبيدها وقوي سلطانها وسار عن إفريقية إلى مصر في سنة ستّ وتسعين ومائتين واجتمع معه خلق عظيم فلم يزل سائرًا حتّى وصل طرابلس فدخلها فأقام بها تسعة عشر يومًا ورأى بها أبا العبّاس أخا أبي عبدالله الشيعيّ وكان محبوسًا بالقيروان حبسه زيادة الله فهرب إلى طرابلس فلمّا رآه أحضره وقرّره‏:‏ هل هو أخو أبي عبدالله فأنكر وقال‏:‏ أنا رجل تاجر قيل عنّي إنّني أخو أبي عبدالله فحبستَني‏.‏

فقال له زيادة الله‏:‏ أنا أطلقك فإن كنت صادقًا في أنّك تاجر فلا نأثم فيك وإنّ كنتَ كاذبًا وأنت أخو أبي عبدالله فليكن للصنيعة عندك موضع وتحفظنا فيمن خلّفناه‏.‏ وأطلقه‏.‏

وكان من كبار أهله وأصحابه إبراهيم بن أبي الأغلب فأراد قتله وقتل رجل آخر كانا قد عرضا أنفسهما على ولاية القيروان فعلما ذلك وهربا إلى مصر وقدما على العامل بها وهو عيسى النُّوشريُّ فتحدّثا معه وسعيا بزيادة الله وقالا له‏:‏ إنّه يُمنيّ نفسه بولاية مصر فوقع ذلك في نفسه وأراد منعه عن دخول مصر إلاّ بأمر الخليفة من بغداد فوصل زيادة الله ليلًا وعبر الجسر إلى الجيزة قهرًا فلمّا رأى ذلك النُّوشريُّ لم يمكنه منعه فأنزله بدار ابن الجصّاص ونزل أصحابه في مواضع كثيرة فأقام ثمانية أيّام ورحل يريد بغداد فهرب عنه بعض أصحابه وفيهم غلام له وأخذ منه مائة ألف دينار فأقام عند النُّوشريِّ فأسرل النُّوشريُّ إلى الخليفة وهو المقتدر بالله يعرّفه حال زيادة الله وحال من تخلّف بمصر فأمره بردّ من تخلّف عنه إليه مع المال ففعل‏.‏

وسار زيادة الله حتّى بلغ الرَّقّة وكتب إلى الوزير وهو ابن الفرات يسأله في الإذن له لدخول بغداد فأمره بالتوقّف فبقي على ذلك سنة فتفرّق عنه أصحابه وهو مع هذا مُدمن الخمر واستماع الملاهي وسُعي به إلى المقتدر وقيل له يُرَدّ إلى المغرب يطلب بثأره فكتب إليه بذلك وكتب إلى النوشري بإنجاده بالرجال والعُدد والأموال من مصر ليعود إلى المغرب فعاد إلى مصر فأمره النُّوشريُّ بالخروج إلى ذات الحمّام ليكون هناك إلى أن يجتمع إليه ما يحتاج إليه من الرجال

والمال ففعل ومطله فطال مُقامه وتتابعت به الأمراض وقيل بل سمّه بعض غلمانه فسقط شعر لحيته فعاد إلى مصر وقصد البيت المقدّس فتوفّي بالرملة ودُفن بها‏.‏

فسبحان الحيّ الذي لا يموت ولا يزول ملكه ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد وكانت مدّة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة وكانوا يقولون‏:‏ إنّنا نخرج إلى مصر والشام ونربط خيلنا في زيتون فلسطين فكان زيادة الله هو الخارج إلى فلسطين على هذه الحال لا على ما ظّنوه‏.‏

  ذكر ابتداء الدولة العلويّة بإفريقية

هذه دولة اتّسعت أكناف مملكتها وطالت مدّتها فإنّها ملكت إفريقية هذه السنة وانقرضت دولتهم بمصر سنة سبع وستين وخمسمائة فنحتاج أن نستقصي ذكرها فنقول‏:‏ أوّل مَن وليَ منهم أبو محمّد عبيد الله فقيل هو محمّد بن عبد الله بن ميمون بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنهم ومَن ينسب هذا النسب يجعله عبد الله بن ميمون القدّاح الذي يُنسب إليه القدّاحيّة وقيل هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني ابن محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن عليّ بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهم‏.‏

وقد اختلف العلماء في صحّة نسبه فقال هو وأصحابه القائلون بإمامته‏:‏ إنّ نسبه صحيح على ما

ذكرناه ولم يرتابوا فيه وذهب كثير من العلويّين العالمين بالأنساب إلى موافقتهم أيضًا ويشهد بصحّة هذا القول ما قاله الشريف الرَّضيُّ‏:‏ ما مُقامي على الهوان وعندي مِقْوَلٌ صارمٌ وأنْفٌ حميُّ ألبَسُ الذُّلّ في بلاد الأعادي وبمصر الخليفةُ العَلَويُّ مَنْ أبوه أبي ومولاه مولا ي إذا ضامني البعيدُ القَصيُّ لفّ عرقي بعرقه سيّدَا النّا س جميعًا‏:‏ محمّدٌ وعليُّ إنّ ذُلّي بذلك الجَوّ عزٌّ وأُوامي بذلك النّقْعِ ريُّ وإنّما لم يودعها في بعض ديوانه خوفًا ولا حجّة بما كَتبه في المحضر المتضمّن القدح في أنسابهم فإنّ الخوف يحمل على أكثر من هذا على أنّه قد ورد ما يصدّق ما ذكرتُه وهو أنّ القادر بالله لمّا بلغته هذه الأبيات أحضر القاضي أبا بكر بن الباقلانيّ فأرسله إلى الشريف أبي أحمد الموسويّ والد الشريف الرضيّ يقول له‏:‏ قد عرفتَ منزلتك منّا وما لا نزال عليه من الاعتداد بك بصدق الموالاة منك وما تقدّم لك في الدولة من مواقف محمودة ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة ترضاه ويكون ولدك على ما يضادّها وقد بلغنا أنّه قال شعرًا وهو كذا وكذا فيا ليت شعري على أيّ مقام ذلٍّ أقام وهو ناظر في النّقابة والحجّ وهما من أشرف الأعمال ولو كان بمصر لكان كبعض الرعايا وأطال القول فحلف أبو أحمد أنّه ما علم بذلك‏.‏

وأحضر ولده وقال له في المعنى فأنكر الشعر فقال له‏:‏ اكتب خطّك إلى الخليفة بالاعتذار واذكر فيه أنّ نسب المصريّ مدخولٌ وأنّه مدّع في نسبه فقال‏:‏ لا أفعل‏!‏ فقال أبوه‏:‏ تكذّبني في قولي فقال‏:‏ ما أكذبك ولكنيّ أخاف من الديلم أخاف من المصريّ ومن الدُّعاة في البلاد فقال أبوه‏:‏ أتخاف ممّن هو بعيد عنك وتراقبه وتُسخط من هو قريب وأنت بمرأى منه ومسمع وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك وتردّد القول بينهما ولم يكتب الرضيُّ خطّه فحرد عليه أبوه وغضب وحلف أنّه لا يقيم معه في بلد فآل الأمر إلى أنّ حلف الرضيُّ أنّه ما قال هذا الشعر واندرجت القصّة على هذا‏.‏

ففي امتناع الرضيّ من الاعتذار ومن أن يكتب طعنًا في نسبهم مع الخوف دليلٌ قويٌّ على صحّة نسبهم‏.‏

وسألتُ أنا جماعة من أعيان العلويّين في نسبه فلم يرتابوا في صحّته وذهب غيرهم إلى أنّ نسبه مدخول ليس بصحيح وعدا طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبه يهوديًّا وقد كُتب في الأيّام القادريّة محضر يتضمّن القدح في نسبه ونسب أولاده وكتب فيه جماعة من العلويّين وغيرهم أنّ فممن كتب فيه من العلويّين المرتضى وأخوه الرضيُّ وابن البطحاوي وابن الأزرق العلويّان ومن غيرهم ابن الأكفانيّ وابن الخرزيّ وأبو العبّاس الأبيورديُّ وأبو حامد والكشفليُّ والقدوريُّ والصَّيْمريُّ وأبو الفضل النسويُّ وأبو جعفر النسفيُّ وأبو عبدالله بن النُّعمان فقيه الشيعة‏.‏

وزعم القائلون بصحّة نسبه أنّ العلماء ممّن كتب في المحضر إنّما كتبوا خوفًا وتقيّة ومن لا علم عنده بالأنساب فلا احتجاج بقوله‏.‏

وزعم الأمير عبد العزيز صاحب تاريخ إفريقية والمغرب أنّ نسبه مُعرِقٌ في إليهوديّة ونقل فيه عن جماعة من العلماء وقد استقصى

  ذكر ابتداء دولتهم وبالغ‏‏

وأنا أذكر معنى ما قاله مع البراءة من عهدة طعنه في نسبه وما عداه فقد أحسن فيما ذكر قال‏:‏ لّما بعث الله تعالى سيّد الأوّلين والآخرين محمّدًا صلى الله عليه وسلم عظم ذلك على إليهود والنصارى والروم والفرس وقريش وسائر العرب لأنّه سفَّه أحلامهم وعاب أديانهم وآلهتهم وفرَّق جمعهم فاجتمعوا يدًا واحدةً عليه فكفاه الله كيدهم ونصره عليهم فأسلم منهم مَن هداه الله تعالى فلمّا قُبض صلى الله عليه وسلم نجم النفاق وارتدّت العرب وظنّوا أنّ الصحابة يضعفون بعده فجاهد أبو بكر رضي الله عنه في سبيل الله فقتل مُسَيْلمة وردّ الرِّدّة وأذلّ الكفر ووطّأ جزيرة العرب وغزا فارس والروم فلمّا حضرتْه الوفاة ظنّوا أن بوفاته ينتقص الإسلام فاستخلف عمر بن الخطّاب فأذلّ فارس والروم وغلب على ممالكها فدسّ عليه المنافقون أبا لؤلؤة فقتله ظنًّا منهم أن بقتله ينطفئ نور الإسلام فوليَ بعده عثمان فزاد في الفتوح واتّسعت مملكة الإسلام فلمّا قُتل ووليَ بعده أمير المؤمنين عليٌّ قام بالأمر أحسن قيام فلمّا يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوّة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم بأمور قد ضبطها المحدّثون وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه‏.‏

فكان أوّل من فعل ذلك أبو الخطّاب محمّج بن أبي زينب مولى بني أسد وأبو شاكر ميمون بن ديصان صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة وغيرهما فألقوا إلى من وثقوا به أنّ لكلّ شيء من العبادات باطنًا وأنّ الله تعالى لم يوجب على أوليائه ومن عرف الأئمّة والأبواب صلاة ولا زكاة ولا غير ذلك ولا حرّم عليهم شيئًا وأباحوا لهم نكاح الأمّهات والأخوات وإنّما هذه قيود للعامّة ساقطة عن الخاصّة‏.‏

وكانوا يظهرون التشيّع لآل النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستروا أمرهم ويستميلوا العامّة وتفرّق أصحابهم في البلاد وأظهروا الزهد والعبادة يغرّون الناس بذلك وهم على خلافه فقُتل أبو الخطّاب وجماعة من أصحابه بالكوفة وكان أصحابه قالوا له‏:‏ إنّا نخاف الجند فقال لهم‏:‏ إنّ أسلحتهم لا تعمل فيكم فلمّا ابتدأوا في ضرب أعناقهم قال له أصحابه‏:‏ ألم تقُلْ إنّ سيوفهم لا تعمل فينا فقال‏:‏ إذا كان قد أراد اللهُ فما حيلتي وتفرّقت هذه الطائفة في البلاد وتعلّموا الشعبذة والنارنجيات والزرق والنجوم والكيمياء فهم يحتالون على كل قوم بما يتّفق عليهم وعلى العامّة بإظهار الزهد‏.‏

ونشأ لأبن ديصان ابن يقال له عبدالله القدّاح علّمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النِّحلة فحذق وتقدّم‏.‏

وكان بنواحي كرْخ وأصبهان رجل يُعرف بمحمّد بن الحسين ويلقّب بدندان يتولّى تلك المواضع وله نيابة عَظيمة وكان يبغض العرب ويجمع مساويهم فسار إليه القدّاح وعرّفه من ذلك ما زاد به محلّه وأشار عليه أن لا يُظهر ما في نفسه إنّما يكتمه ويُظهر التشيّع والطعن على الصحابة فإنّ الطعن فيهم طعن في الشريعة فإنّ بطريقهم وصلتَ إلى من بعدهم‏.‏

فاستحسن قوله وأعطاه مالًا عظيمًا ينفقه على الدُّعاة إلى هذا المذهب فسيّره إلى كُوَر الأهواز والبصرة والكوفة وطالقان وخُراسان وسلميّة من أرض حِمص وفرّقه في دعاته وتوفّي القدّاح ودندان‏.‏

وإنّما لُقّب القدّاح لأنّه كان يعالج العيون ويقدحها‏.‏

فلمّا توفّي القدّاح قام بعده ابنه أحمد مقامه وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين ابن حوشب بن داذان النجّار من أهل الكوفة فكانا يقصدان المشاهد وكان باليمن رجل اسمه محمّد بن الفضل كثير المال والعشيرة من أهل الجَنَد يتشيّع فجاء إلى مشهد الحسين بن عليّ يزوره فرآه أحمد ورستم يبكي كثيرًا فلمّا خرج اجتمع به أحمد وطمع فيه لما رأى من بكائه وألقى إليه مذهبه فقبله وسيّر معه النّجّار إلى اليمن وأمره بلزوم العبادة والزهد ودعوة الناس إلى المهديّ وأنّه خارج في هذا الزمان باليمن فسار النّجار إلى اليمن ونزل بعدن بقرب قوم من الشيعة يُعرفون ببني موسى وأخذ في بيع ما معه‏.‏

وأتاه بنو موسى وقالوا له‏:‏ فِيمَ جئتَ قال‏:‏ للتجارة‏.‏

قالوا‏:‏ لستَ بتاجر وإنّما أنت رسول المهديّ وقد بلغنا خبرُك ونحن بنو موسى ولعلّك قد سمعتَ بنا فانبسطْ ولا تحتشم فإنّا إخوانك‏.‏

فأظهر أمره وقوّي عزائمهم وقرب أمر المهديّ فأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح وأخبرهم أنّ هذا أوان ظهور المهديّ ومن عندهم يظهر‏.‏

واتّصلت أخباره بالشيعة الذين بالعراق فساروا إليه فكثر جمعهم وعظم بأسهم وأغاروا على من جاورهم وسبوا وجبوا الأموال وأرسل إلى مَن بالكوفة من ولد عبدالله القدّاح هدايا عظيمة وكانوا أنفذوا إلى المغرب رجلينْ أحدهما يُعرف بالحلوانيّ والآخر يعرف بأبي سفيان

وقالوا لهما‏:‏ إنّ المغرب أرض بور فاذهبا فاحرثا حتى يجيء صاحب البدر فسارا فنزل أحدهما بأرض كُتامة ببلد يسمّى مَرْمجَنّة والآخر بسوق حمار فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما وحملوا إليهما الأموال والتحف فأقاما سنين كثيرة وماتا وكان أحدهما قريب الوفاة من الآخر‏.‏

  ذكر إرسال أبي عبد الله الشيعيّ إلى المغرب

كان أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمّد بن زكريّاء الشيعيُّ من أهل صنعاء وقد سار إلى ابن حوشب النجّار وصحبه بعدن وصار من كبار أصحابه وكان له علم وفهم ودهاء ومكر فلمّا أتى خبر وفاة الحلوانيّ وأبي سفيان إلى ابن حوشب قال لأبي عبد الله الشيعيّ‏:‏ إنّ أرض كُتامة من المغرب قد حرثها الحلوانيُّ وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك فبادِرْ فإنّها موطَّأة ممهّدة لك‏.‏

فخرج أبو عبدالله إلى مكّة وأعطاه ابن حوشب مالًا وسيّر معه عبد الله بن أبي ملاحف فلمّا قدم أبو عبدالله مكّة سأل عن حُجّاج كُتامة فأُرشد إليهم فاجتمع به ولم يعرّفهم قصده وجلس قريبًا منهم فسمعهم يتحدّثون بفضائل أهل البيت فأظهر استحسان ذلك وحدثهم بما لم يُعلموه فلمّا أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته والأنبساط معه فأذن لهم في ذلك فسألوه أين مقصده فقال‏:‏ أُريد مصر ففرحوا بصحبته‏.‏

وكان من رؤساء الكُتاميّين بمكّة رجل اسمه حُرَيْث الجُميليُّ وآخر اسمه موسى بن مكاد فرحلوا وهو لا يخبرهم بغرضه وأظهر لهم العبادة والزهد فازدادوا فيه رغبةً وخدموه وكان يسألهم عن بلادهم وأحوالهم وقبائلهم وعن طاعتهم لسلطان إفريقية فقالوا‏:‏ ما له علينا طاعة وبيننا وبينه عشرة أيّام‏.‏

قال‏:‏ أفتحملون السلاح قالوا‏:‏ هو شغلنا ولم يزل يتعرّف أحوالهم حتّى وصلوا إلى مصر فلمّا أراد وداعهم قالوا له‏:‏ أيّ شيء تطلب بمصر قال‏:‏ أطلب التعليم بها قالوا‏:‏ إذا كنتَ تقصد هذا فبلادنا أنفع لك ونحن أعرف بحقّك ولم يزالوا به حتّى أجابهم إلى المسير معهم بعد الخضوع والسؤال فسار معهم‏.‏

فلمّا قاربوا بلادهم لقيهم رجال من الشيعة فأخبروهم بخبره فرغبوا في نزوله عندهم واقترعوا فيمن يضيفه منهم ثم رحلوا حتّى وصلوا إلى أرض كُتامة منتصف شهر ربيع الأوّل سنة ثمانين ومائتين فسأله قوم منهم أن ينزل عندهم حتّى يقاتلوا دونه فقال لهم‏:‏ أين يكون فجّ الأخيار فتعجّبوا من ذلك ولم يكونوا ذكروه له فقالوا له‏:‏ عند بني سليان‏.‏

فقال‏:‏ إليه نقصد ثمّ نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم فأرضى بذلك الجميع‏.‏

وسار إلى جبل يقال له إنْكِجان وفيه فجّ الأخيار فقال‏:‏ هذا فجّ الأخيار وما سُمّي إلاّ بكم ولقد جاء في الآثار‏:‏ إنّ للمهديّ هِجرة تنبو عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم مشتقٌ اسمهم من الكِتمان فإنّهم كُتامة وبخروجكم من هذا الفجّ يسمّى فجّ الأخيار‏.‏

فتسامعتِ القبائل وصنع من الحيل والمَكِيدات والنارنجيات ما أذهل عقولهم وأتاه البربر من كلّ مكان وعظم أمره إلى أن تقاتلتْ كُتامة عليه مع قبائل البربر وسلم من القتل مرارًا وهو في كلّ ذلك لا يذكر اسم المهديّ فاجتمع أهل العلم على مناظرته وقتله فلم يتركه الكُتاميّون يناظرهم وكان اسمه عندهم أبا عبدالله المشرقيّ‏.‏

وبلغ خبره إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية فأرسل إلى عامله على مدينة ميْلَةَ يسأله عن أمره فصغّره وذكر له أنّه يلبس الخشن ويأمر بالخير والعبادة فسكت عنه‏.‏

ثمّ إنّه قال للكُتاميّين‏.‏

أنا صاحب البدر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلوانيُّ فازدادت محبّتهم له وتعظيمهم لأمره وتفرّقت كلمة البربر وكُتامة بسببه فأراد بعضهم قتله فاختفى ووقع بينهم قتال شديد واتّصل الخبر بإنسان اسمه الحسن بنهارون وهو من أكابر كُتامة فأخذ أبا عبدالله إليهن ودافع عنه ومضيا إلى مدينة ناصرون فأتته القبائل من كلّ مكان وعظم شأنه وصارت الرئاسة للحسن بن هارون وسلّم إليه أبو عبدالله أعنّة الخيل وظهر من الاستتار وشهر الحروب فكان الظفر له فيها وغنم الأموال وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها فزحفت قبائل البربر إليها واقتتلوا ثمّ اصطلحوا ثمّ أعادوا القتال وكان بينهم وقائع كثيرة وظفر بهم وصارت إليه أموالهم فاستقام له أمر البربر وعامّة كُتامة‏.‏